السفير
خرج المسيحيّون، طقسيّاً، من زمن الفصح الى زمن العنصرة، زمن الرجاء. أمّا مسيحيّو هذا الشرق فيعيشون، واقعاً، في زمن القلق، كي لا نقول الخوف، من المستقبل، هذا المجهول الذي يطلّ عبر أحداث تتخذ أسماء ليست لها، من ثورات، وانتفاضات، في حين هي أقرب ما تكون الى صفة المؤامرات وهي تستهدف، ممّا تستهدفه، الوجود المسيحي التاريخي في هذا الشرق.
خطيرٌ أن يعتقد مسيحيّو هذا الشرق بأنّ استمرار حضورهم فيه أمرٌ ثابت نهائيّ، مهما تقلّبت الظروف أو ساءت، ومهما كثرت المخاطر والأخطاء.
والأخطر أن يعتقد مسيحيّو العالم بأنّ زوال المسيحيّين في الشرق أمر يمكن التعايش معه أو العيش بعده. وعلى هؤلاء أن يدركوا أنّ «موت» مسيحيّي الشرق ممكن، لا بل يقترب يوماً بعد يوم، وأنّ بقاءهم ضرورة تتعاظم وتتأكد ساعة فساعة.
من هذا المنطلق، ننظر الى ما يقوم به البطريرك بشارة الراعي. ومن هذا المنطلق نأمل في الدور الذي يضطلع به الفاتيكان، على الرغم من إدراكنا لصعوبته.
ليس الخطر الذي يعترض الوجود المسيحي في لبنان وفي الشرق وليد اليوم ولا الأمس القريب، بل هو مسار يعود الى عقودٍ عدّة. لا بأس إذاً بالعودة الى محطات تاريخيّة، بحثاً عن عبر واستنتاجات، وإنعاشاً للذاكرة...
كان الجنوب الأميركي يسيطر، تاريخيّاً، على اقتصاد الولايات المتحدة الأميركيّة، وكان الرأسماليّون حينها هناك من المسيحيّين المتطرّفين والعنصرّيين. استغرق الأمر سنوات حتى تسلّل اليهود الى ذلك الجنوب وأقاموا صلات اقتصاديّة ومهنيّة مع هؤلاء المسيحيّين الرأسماليّين، فتحوّلوا الى خدمتهم وأصبح الكثير من اليهود محاسبين في شركات يملكها مسيحيّون باتوا يكنّون العداء الى الآخر، كائناً من كان، إلا اليهودي.
من بين الأسماء التي لمعت في تلك المرحلة، ماير لانسكي، رجل المافيا الشهير، البولندي الأصل، الذي كانت له يد، مع يهود آخرين، في انتشار وتمويل الحركة الصهيونيّة في الولايات المتحدة وهو بعد أن نجح في ادارة اموال المافيا واستخدم خبرته في الادارة المالية معها، راح يساعد الرأسماليّين في الجنوب الأميركي على ادارة ثرواتهم وخلق رابط بينهم وبين اللوبي الصهيوني، فأبعدوهم عن التعاليم المسيحيّة وأنشاوا مجموعة متشدّدة على أساسٍ دينيّ مسيحيّ مزيّف وصديقة لليهود مسمّاة «النيو كونز» أو «المحافظون الجدد». ووضعوا هذه المجموعة بتصرف الحركة الصهيونيّة عبر تحالف غير معلن بينهم يستمرّ حتى اليوم، وهم تمكّنوا، عبر ذلك، من التحكّم في جزءٍ كبير من القرارين السياسي، وخصوصاً السياسة الخارجيّة، والاقتصادي للولايات المتحدة.
وتجدر الإشارة الى أنّ لانسكي، الذي لعب أدواراً كثيرة بعيداً عن الأضواء، كان مطلوباً للقضاء الأميركي في جرائم عدّة إلا أنه فرّ الى إسرائيل حيث توفي ليورث الدولة الإسرائيليّة ثروة تتجاوز المليار دولار.
نادى «النيو كونز» بالسوق الحرّة وناهضوا الشيوعيّة، ثمّ أقاموا تحالفاً متيناً مع إسرائيل... كما حرّفوا الدين المسيحي وتعاليمه وقيمه، وسعوا الى السيطرة على العالم انطلاقاً من شعاراتٍ و«تعاليم» واهية لا تمتّ الى المسيحيّة بصلة.
لم ينحصر دور وأهداف هذه المجموعة في داخل الولايات المتحدة. عملت شركات مملوكة من رجال أعمال ينتمون الى هذا النهج على الحصول على امتياز التنقيب عن النفط في السعوديّة، فنشأ منذ ذلك الحين، أي في ثلاثينيات القرن الماضي، تحالف بينهم وبين آل سعود، كان له فضل كبير في تأسيس المملكة العربيّة السعوديّة في العام 1932 أي قبل أشهر من توقيع أول اتفاقية لامتياز التنقيب عن البترول بين المملكة وشركة «ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا»(سوكال). وقبل أشهر أيضاً من إنشاء شركة تابعة هي «شركة كاليفورنيا أريبيان ستاندرد أويل كومباني» («كاسوك» التي ستصبح لاحقاً «أرامكو») لإدارة الامتياز.
هل كان هذا التحالف مجرّد صدفة؟ وهل هي صدفة أيضاً أن تتأسّس المملكة على أساس نظام ديني إسلامي فريد من نوعه في الدول العربيّة الأخرى؟ وهل هي صدفة أيضاً أنّ هذا النظام لم يكن يوماً في مواجهة مع إسرائيل ولا كفّر المتعاملين معها، وأنه، في المقابل، يمنع بناء الكنائس على أرضه وممارسة الشعائر الدينيّة المسيحيّة؟
لم تشهد هذه «الحالة» السعوديّة سوى استثناء وحيد مع الملك فيصل بن عبد العزيز الذي أوقف تصدير النفط فدفع الثمن عبر اغتياله من قبل الأمير فيصل بن مساعد بن عبد العزيز، بتحريض من الولايات المتحدة بسبب قراره النفطيّ. علماً أنّ هذا الملك كان الوحيد، من بين ملوك المملكة، الذي جاهر اليهود بكرهه.
انطلاقاً من هذا السرد التاريخي، يمكن تفسير موقف الفاتيكان ممّا يجري في أكثر من بقعة في العالم العربي. لا تريد الكنيسة أن تكرّر أخطاء الماضي، ومنها الماضي السحيق حين تحوّل صلاح الدين الأيّوبي المسلم الى حامٍ للمسيحيّين أكثر من مسيحيّي الغرب، ومن البعض في الكنيسة حتى. حمى صلاح الدين الوجود المسيحي وصان الأديرة والكنائس، في وقتٍ تمنع السعوديّة المسيحيّين من رسم إشارة الصليب على أرضها.
وانطلاقاً من هذه الوقائع، يمكن النظر الى موقف البطريرك الماروني، الذي يستحقّ أن يعطى مجد المسيحيّين في الشرق، وليس مجد لبنان فقط. هنا جوهر مواقف البطريرك، وهكذا تستحقّ مقاربتها، لا من منظار المواقف السياسيّة اليوميّة الاستهلاكيّة.
هو موقف تاريخي، ولذلك جاءته السهام من فريقٍ محدّد. فريق ينسجم مع التحالف الوهابيّ، ومع «النيو كونز» الأميركي وصديقه اليهودي. صديق صديقي هو صديقي، يُقال. أمّا نحن فنقول: صديق عدوّي هو عدويّ.
حمى الله مسيحيّي الشرق من الأعداء، وأخطرهم من يدّعي الصداقة... — with Hazrat Ali.